الثلاثاء، 26 أبريل 2016

إلى ‘آل سعود’.. أتى أمر الله فلا تستعجلوه (2 / 2)

69b3db55-f039-48df-9046-a777aa11f445ممّا أوردناه في الجزء الأول من هذا المقال، يمكن تحديد معضلة الأمة الإسلامية في مسألتين بالغتين الأهمية والخطورة: الأولى، مسألة العقل لمعرفة الشرع والإيمان لمعرفة الله تعالى، بحيث لا توجد رؤية موحدة لدى المسلمين حول شرع الله من جهة، ولا حول ماهية الله ذاتا وموضوعا من جهة أخرى، ناهيك عن إشكالية الطريقة لمعرفة الحقيقة.. والثانية مسألة عمل سنة الله في الكون والخلق، والتي لا علاقة لها بسنة الفقهاء التي تعرف اصطلاحا بـ”الشريعة الإسلامية”.

وقلنا باختصار شديد، أن الطريقة الوحيدة ليعرف الإنسان ربه تمر عبر معرفته بنفسه أولا، لقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله (من عرف نفسه فقد عرف ربه)، وهو نهج العارفين بالله كما حدد مواصفاتهم الإمام علي عليه السلام في (نهج البلاغة)، للوصول إلى اللغز الخفي أو سر الأسرار الذي لا يقال، ويشار إليه بلغة الرمز والإشارة بدل صريح العبارة، بسبب الخوف من تحريض فقهاء الرسوم للجهال من الناس على أولياء الله الصالحين ما يستوجب التقية من جهة، ولمحدودية اللغة وعجزها عن ترجمة ما يزخر به ملكوت السماء من أسرار إلى اللغة البشرية المتداولة من جهة أخرى، لأن البوح بمثل هذه الأسرار لعامة الناس هو كإطعام لحم الطير للرضيع كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي.
وبعيدا عن مسألة الإلهيات وقضية الأحادية ومفهوم الألوهية والربوبية، وبالحديث فقط عن “الشريعة” مثلا، نجد أن القضية تختلط على الناس حين يسمعون الفقهاء يتحدثون عن “الشريعة الإسلامية”، فيعتقدون أن الأمر يتعلق بشرع الله، لكنك لو استعملت منهج الشك الذي تحدثنا عنه في الجزء الأول، والذي وضعه الإمام حامد الغزالي 6 قرون قبل الفيلسوف ديكارت الذي اكتفى بترجمته من العربية إلى الفرنسية ونسبه إلى نفسه كما أسلفنا، فتغير تاريخ الفلسفة في الغرب بشكل جذري أدى إلى ثورة غير مسبوقة في مجال العلوم والمعرفة، في حين تجاهل العرب هذا المنهج واهتموا فقط بمسألة النقل عن السلف دون إعمال للعقل والنقد…
.. أقول، لو استعملت منهج الإمام أبو حامد الغزالي في فهم مصطلح “الشريعة الإسلامية” مثلا، لاكتشفت من خلال عملية التفكيك والمقارنة مع ما ورد في القرآن الكريم، أن الأمر لا يتعلق بشرع الله بقدر ما يتعلق بخلطة كيميائية عجيبة غريبة، تجمع بين شريعة السماء وبعض من شريعة اليهود والسنن المنسوبة إلى الرسول واجتهادات الفقهاء التي تختلف باختلاف مدارسهم الدينية ومشاربهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية بل ومواقعهم الجغرافية أيضا، الأمر الذي أدى إلى اختلافات بعضها رحمة، وأخرى تحولت إلى خلافات تطايرت بسببها رؤوس وأرواح، فحصلت التفرقة في الدين وانقست الأمة إلى طوائف ومذاهب وتيارات وملل ونحل وفرق، ولوجدت أن عديد السنن المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هي في حقيقة الأمر مُؤسّسة على عديد الأحاديث المدسوسة وأخرى قال بها بعض السلف فاكتسبت صفة القداسة، ولتساءلت باستغراب عن جدوى الاجتهاد في حال وجود نص قرآني واضح المعنى قطعي الدلالة (؟)..
لا يسع المجال هنا لسرد أمثلة على كثرتها، كقتل المرتد برغم قوله تعالى لا إكراه في الدين، وكل نفس بما كسبت رهينة، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إن الله غني عن العالمين..، ناهيك عن حكم قتل المعارض للحاكم بأمره، وقتال الكفار لأنهم كفارا، وغيرها من الأحكام التي لا أساس لها من شرع ولا وجود لنص يأمر بها في القرآن الكريم..
لأنه لو كانت معارضة الحاكم تستوجب القتل لما قال الله تعالى لموسى عليه السلام (اذهب إلى فرعون إنه طغى)، لكن، وبسبب ما شرّعه الفقهاء للحكام من عصمة وأصبغوا عليهم من تبجيل وقداسة، فشلت العرب في إقامة دولة قوية عادلة على أساس الشورى بالمفهوم القرآني الواسع، تضمن الأمن والرفاهية لمواطنيها جميعا دون تمييز، وبسبب غياب مناخ الحرية وآليات الحكم “الديمقراطي” ومبدأ المساءلة والمحاسبة على قدر المسؤولية، لم يعرف العالم العربي تجربة المعارضة السياسية السلميّة للنظام القائم، ما جعل المعارضين وعلى مر التاريخ، يلجؤون لسلاح الدين لنزع الشرعية عن الحاكم بالعنف، وهذا تحديدا هو منبع الإرهاب ومنشأه، ومرده ليس الدين بحد ذاته بقدر ما يتعلق الأمر بسوء استغلال الدين في السياسة.
كما أن الجهاد في الإسلام لا علاقة له بالغزوات وما اصطلح على تسميته بالفتوحات التوسعية، لأن الله لم يأمر رسوله لنشر الإسلام بالسيف بل بالكلمة الطيبة والقدوة الحسنة، كما أن الجهاد وفق المفهوم القرآني يعني مجاهدة النفس وبدل الجهد في العمل الصالح الذي ينفع الناس، في حين أن كل آيات القتال التي وردت في القرآن الكريم تتحدث عن حق الدفاع عن النفس والعرض والمال والأرض، أي أنها وردت بمعنى المقاومة حصرا وتحديدا، لأن الإسلام دين سلام ومحبة وتعايش واحترام (وحاورهم بالتي هي أحسن)، ولا يُجيز استعمال القوة إلا في حال الدفاع المشروع ضد العدوان.
ولا مجال للحديث عن حكم رجم الزانية الذي ما أنزل الله به من سلطان وحدد عقوبته في آيتين فقط لا غير، الأولى تقضي بجلد غير المحصنة، والثانية باعتزال المحصنة في بيتها إلى أن يفعل الله أمرا كان مقضيا، وغيرها كثير.. وسنكتفي هنا بمثال واضح فاضح له علاقة بالمواريث، لقوله تعالى في سورة البقرة آية 180: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين)، وإذا استخرجت الآيات العديدة التي تتحدث عن القسمة في القرآن لوجدتها تبدأ بعبارة (بعد وصية يوصي بها أو دين)، لكنك حين تعود لشريعة الفقهاء، فستجد قاعدة مبنية على حديث منسوب للرسول مؤداها أن (لا وصية لوارث)، وبذلك يتم هدم ما ورد من أحكام ربانية واضحة المعنى قطعية الدلالة في هذا الباب، استنادا إلى حديث يستحيل أن يكون قائله الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم..
لأن السؤال الذي يطرح نفسه هنا بقوة هو: هل يجرؤ الرسول الكريم على إلغاء حكم شرعي قال به الله تعالى وكرره في عديد الآيات والله يأمره بأن يحكم بما أنزل الله؟.. هذا علما أن مهمة الرسول من حيث أنه رسول بعثه الله رحمة للعالمين وليس للمسلمين فحسب، هو فقط إيصال رسالة ربه للناس جميعا من دون زيادة أو نقصان، وليس له أن يجتهد في شيئ هو من أمر السماء..
وللخروج من هذا المأزق، يستنجد الفقهاء بحيلة “الناسخ والمنسوخ” لتبرير إلغاء شرع الله واستبداله بشريعتهم، فيصبح المأزق أكبر وأخطر، لأن النسخ هنا يطال عدد كبير من آيات التشريع.. وحين تبحث عن السياق الذي ورد فيه مصطلح “النسخ” في القرآن الكريم، تكتشف بذهول أن الله نسخ بعض الأحكام التي وردت في الكتب السماوية السابقة للتخفيف عن أمة محمد، ولا علاقة له بأحكام القرآن نفسه الذي جاء كاملا مكتملا يشمل كل شيئ ولم يفرط في شيئ كما يقول تعالى في محكم كتابه، وهو المُنزّه عن العبث.
ولو جادلت فقيها من أصحاب الرسوم في أمر كهذا بحجة من القرآن، لأنكرها عليك وادّعى أن الحق هو ما قال به السلف حتى لو كان اجتهاد السلف مجانبا للصواب (تقول له قال الله تعالى.. فيقول لك، القول ما قاله الشيخ فلان)، وستكتشف في النهاية أن ما تزخر به المكتبات الإسلامية من تفاسير واجتهادات فقهية، هي عبارة عن كم هائل من الكتابات المكرورة والمُجترّة من عصر إلى عصر صنعت مسلما ضعيفا فقيرا متخلفا فاشلا صامتا وعاجزا، تخلى عن حقه في جنة الدنيا في انتظار جنة الآخرة.
وكان حري بالمسلمين أن يفهموا الفرق بين محمد الرسول الذي بعثه الله بالقرآن ليكمل للناس دينهم وجعله رحمة للعالمين، ومحمد النبي الذي بعثه الله لقومه في زمانه، ومحمد القائد العسكري المجاهد والمقاوم، ومحمد المرشد والمربي الذي وضع اللبنة الأولى لبناء أمة، ومحمد الإنسان الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.. لأنهم لو كانوا فعلوا، لما اختلط الأمر على الناس إلى هذا الحد، لدرجة تركوا القرآن وراحوا يبحثون عن دين جديد انطلاقا ممّا أسموه بـ”السنة”، تماما كما فعل الأحبار والكهنة مع الرسالات السابقة، برغم تحذير الله تعالى لهم من مغبة التفرقة في الدين وترك القرآن وراء ظهورهم من غير تدبّر وفهم.
هذا ليس كل شيئ، لأن المأزق الحقيقي الذي تعيشه الأمة اليوم يكمن في أن دعاة تجديد الدين، يطالبون بتنقية هذا الموروث الضخم من التراث، من خلال عملية تحديث “الشريعة الإسلامية” لجعل الأحكام القديمة مناسبة للعصر الحديث، اعتقادا منهم أن من شأن هذا الحل السحري أن يخرج الأمة من مآزقها المركبة والمستعصية، في غياب توصيف حقيقي لسبب المشكلة وطريقة حلها.
في حين أن القضية الأساس لا تكمن في شريعة الفقهاء ولا في إقامة الخلافة أو غيرها من الشعارات التي يرفعها تجار الإسلام السياسي اليوم لسرقة السلطة من الشعب ومن تم تخديره لقرون أخرى قادمة في انتظار أن يرحم الله عباده بالموت أو التخلف العقلي..
المشكلة يا سادة تكمن في مصطلح “السنة” بالذات، بين سنة الله وسنة الفقهاء، لذلك، سنحاول في هذا الباب الحديث باقتضاب عن سنة الله في الخلق لعلاقتها بعنوان المقال، وإن كان الأمر يتطلب منا كتابة عشرات الصفحات لإيفاء الموضوع حقه، لكن نظرا لضيق المقام، سنركز على بعض المفاتيح الأساسية للفهم، لنترك للقارئ الكريم حرية البحث عن الحقيقة بالاجتهاد الخاص.
*** / ***
معضلة الأمة أيها الأعزاء أنها لم تفهم رسالة ربها، وذهب فقهائها يبحثون عن طريقة ناجعة لتدجين الناس وإخضاعهم لسلطة الحكام من مدخل “الشريعة”، ولأنهم لم يجدوا في كتاب الله ما يدعم توجههم هذا، فقد اخترعوا مصطلح “الشريعة الإسلامية” التي أسسوها على ما أسموه بـ”السنة”، ليضفوا على مقولاتهم نوع من القداسة لتظل بعيدة عن النقد والتجريح، وأشهروا سلاح التكفير في وجه كل من يحاول التشكيك بها، وحرّموا سؤال المعرفة فعطلوا العقل حين اعتبروا الفلسفة بوابة للكفر، فانسحب رداء القداسة أيضا على الحاكم الذي يطبق “شريعة الفقهاء”، وتحوّل بوصفة سحرية إلى ظلّ لله في الأرض، يقطع رؤوس الناس باسمه ويجلدهم نيابة عنه، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن كما قال الخليفة عثمان زمن العصبية والجهل، وبالتالي، لا يجرؤ أحد على مناقشة الحاكم بأمره أو معارضته حتى لو كان ظالما فاسدا فاجرا.
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: – كيف السبيل للخروج من هذا المأزق؟..
الجواب بسيط للغاية ولا يتطلب كثير ذكاء، أي مسلم مهما كان مستواه ومخزونه الفكري، يستطيع أن يعود للقرآن من خلال “المنقب القرآني” ويضع مفردة “سُنّـة” مستقلة أو على مستوى الجذر اللغوي، ليكتشف عدد هائل من الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح في سياقات مختلفة، ليس فيها سياق واحد يتحدث عن سنة الرسول التي استند إليها الفقهاء في وضع شريعتهم، بل كل الآيات تتحدث حصرا عن سنن الله في الكون والخلق فقط لا غير.

ماذا يعني هذا؟..

هذا يعني أن خط الانحراف الكبير في تاريخ المسلمين بدأ مع مسيرة الفقه والحديث والتشريع الذي صيغ على مقاس الحكام، ويمكن القول، أنه باستثناء العالم الرباني الكبير ابن خلدون، لم يهتم علماء المسلمين بما نصحهم به تعالى من البحث والاجتهاد في سنن الله حين أمرهم بالسير في الأرض لمعرفة كيف بدأ الخلق، وهو باب عظيم يفتح على العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية وغيرها مما له علاقة بأسرار الكون، ناهيك عن علم التاريخ وعلم الاجتماع بفروعه المتعددة التي تعني بشؤون الخلق، لمعرفة ما حل بالأمم السابقة وأسباب ذلك ليقفوا على طريقة عمل سنن الله في الكون والخلق فيقيموا مجتمعاتهم على أساس قوانينها الحتمية الثابتة، لقوله تعالى، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا ولا تغييرا.
بمعنى، أن سنن الله هي قوانين إلهية غير مرئية تعمل في الكون وحياة الناس من دون أن يشعروا بها، هذه القوانين الخفية هي التي تصنع التاريخ على أيدي الناس باعتبارهم وكلاء وخلفاء لله في الأرض، وفق مشيئته (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما).
ومن سمة سنن الله الثبات والتكرار كلما توفرت نفس الأسباب بغض النظر عن مسألة الكفر والإيمان لشموليتها الجميع دون استثناء، بحيث أنها حصلت في الماضي وتحصل في الحاضر وستحصل في المستقبل، وهذا هو معنى أن “التاريخ يعيد نفسه”، وقد ورد في قصص القرآن العديد من الحالات التي أراد ربنا تنبيهنا إليها لنتجنبها في حاضرنا حتى لا نفاجأ بسخطه وغضبه ونصبح على ما فعلنا نادمين، ويعتبر القرآن الكريم بحق مصدرا غنيا من مصادر علم السنن الربانية التي تناولها في أكثر من واقعة وسياق، وبيّن أسبابها ونتائجها الحتمية، وضرب لنا الأمثال وردّد على مسامعنا الحكم من أفواه الأنبياء والأولياء (الخضر مثالا)، وأمرنا بالتأكّد من ذلك بالسير في الأرض ودراسة تاريخ الشعوب والأمم لمعرفة مصداق الكلام الرباني.
وبموازاة سننه الخارقة التي تجلت في المعجزات زمن الرسل، وسننه الثابتة في الكون التي لا يستطيع صبر بعض من أغوارها إلا كبار العلماء لأنها تشمل كل نواحي الحياة باعتبارها قوانين حاكمة في عالم النبات وعالم الحيوان وعالم الجماد والنجوم والفلك والشمس والقمر والليل والنهار والنور والظلام والمناخ وما إلى ذلك مما يصعب حصره في هذا المقام، هناك السنن الجارية في الخلق مجرى الدم في العروق، منها ما يتعلق بالموت والحياة ومنها ما يعلق بتصرفات الإنسان نفسه وتأثيرها على منظومة الحياة الطبيعية والاجتماع الإنساني، وقد أوجزها ربنا في مجموعة قضايا جوهرية وأمرنا بالنظر إليها لاستخلاص العبر، وعلى رأسها ما يحصل عندما يعمّ الظلم والفساد الأرض بما صنعت أيدي الناس فيختل التوازن، هنا تتدخل سنن الله لتقويم الاختلال فيحل العذاب الشديد في الدنيا قبل الآخرة بمن تسبب في ذلك ومن سكت على ذلك أيضا، لأن الله تعالى حرّم الظلم على نفسه وجعله محرّما بين عباده.
عندما درست فكر ابن خلدون ونظرياته في العمران البشري أيام الصبا، كنت أتساءل بإعجاب عن السر الذي جعل هذا الرجل العظيم يخرج بنظريات في علم الاجتماع لم يسبقه إليها عالم، ولم يستطع عالم في العصر الحديث تجاوزها، إلى أن عثرت على مقولة في رسالة لإخوان الصفاء وخلان الوفاء يتحدثون 400 سنة قبل ابن خلدون عن نظرية “سقوط وصعود الحضارات”، مستشهدين بما ورد في القرآن الكبير عن “نقصان الأرض من أطرافها” لوقله تعالى في سورة الرعد آية 41: (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)، والمقصود خراب الأرض وذهاب أهلها ليحل مكانهم قوم آخرين.. اعتقدت أن ابن خلدون أخذ نظريته من إخوان الصفاء، فانتقدته لجهلي حينها، لكنني مع الأيام، أدركت أن سرّ عظمة ابن خلدون وثبات نظرياته تكمن في أنه طبق حرفيا قوله تعالى،(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)الحج:46.. وغيرها من الآيات التي تحث على البحث والنظر والاستقصاء، وأن نظريته حول سقوط وصعود الحضارات ليست نظرية خاصة مسجلة باسم إخوان الصفاء، بل نظرية ربانية استمدها الاثنان من القرآن الكريم كل بأسلوبه وطريقة شرحه الفريدة.
لكن ما يميّز ابن خلدون عن غيره كابن حزم وابن رشد و آخرين مثلا، هو أن ابن خلدون هو الوحيد الذي كرّس حياته كليّا لما يمكن تسميته بـ “علم السنن الربانية في الخلق”، بخلاف غيره ممن أشاروا لبعضها في سياق مباحثهم الخاصة، وربطها أساسا بمسألة الحكم الظالم والعادل، والمجتمعات التي أقامت العدل وحققت القيم الإنسانية، والمجتمعات التي انحرفت وما إلى ذلك، مستندا إلى عبر التاريخ وما رآه على أرض الواقع مقارنة بما ورد في القرآن الكريم.
لكن وللأمانة، لعل الوحيد الذي وضع أصبعه على الجرح في العصر الحديث وتحدث عن ضرورة اهتمام علماء الأمة بعلم السنن الربانية لأنه السبيل الوحيد لمعرفة الطريق لإنقاذ الأمة من جهلها وتخلفها وبناء نهضة إسلامية واعدة هو الإمام محمد عبده، لأن السنن الربانية التي وردت في القرآن الكريم وبخلاف سنن الفقهاء التي تكرّس الاستبداد وتأبّد الفساد لصالح الحكام الطغاة الظلمة، هي قوانين حتمية ثابتة ونهائية، تحكم الكون والاجتماع الإنساني، وتساعد على فهم الأسباب والنتائج وتحكم التخلف والانحطاط كما تحكم التقدم والازدهار بغض النظر عن الكفر والإيمان، لأن محورها الأساس العدل وتحريم الظلم والفساد والاستبداد.
وطريق التغيير كما أوضحه لنا ربنا تعالى قبل فوات الأوان يبدأ من النفس لقوله تعالى، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، لأن ما من خير يصيبنا فمن الله وما من مصيبة تصيبنا فمن أنفسنا، والمعضلة كما هي قائمة اليوم تكمن فينا لا في أمريكا أو إسرائيل أو السعودية، وتتمثل في ظلم حكامنا وفسادهم وعمالتهم وخيانتهم لأمانة ربهم وعهد أمتهم، وعلى رأسهم عصابة آل سعود المجرمة، وصمتنا وسلبيتنا وتقاعسنا عن الانتفاضة ضد هذا الواقع الرّديء لتغييره.
*** / ***
وعلى هذا الأساس، فواضح أن ما ينتظرنا في المستقبل إن لم نغير أنفسنا لنستطيع تغيير واقعنا هو ما حصل للأمم قبلنا، حيث سينتهي بنا الأمر إلى الموت والخراب والاندثار، ومن يعش منا ومن الأجيال القادمة سيعيش عبدا ذليلا مهانا إلى أن يلقى الله على ما هو عليه، وكل شعارات الزيف التقدمية وبهتان الأختام الأصولية لن تنقذنا من مصيرنا الأسود الذي نراه ماثلا في مستقبلنا لأننا نعيش تجلياته المظلمة اليوم واقعا في حياتنا.
وحدها المقاومة الشريفة تمثل بصيص أمل للخروج من المشهد المظلم الذي يرتسم لنا في الأفق، ولهذا السبب الرهان اليوم هو على نزع شرعية المقاومة لضربها وإنهائها، في محاولة خبيثة لتعطيل سنة الله في الخلق، والتي تقول، لولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، لذلك، واجب كل مكونات الأمة اليوم الانخراط في المقاومة قلبا وقالبا لأنها الخلاص الوحيد للخروج من المصيبة التي أصابتنا بسبب صمتنا وعجزنا وتقاعسنا، ما يستوجب مراجعة الذات وتكثيف الجهود لنستثمر جميعا في هذه المنارة المضيئة في ظلام ليلنا إلى أن يأذن الله بفجر جديد.
أما في ما يخص نظام آل سعود، فهناك مؤشر واعد يبشر بقرب نهايتهم الحتمية، وهذه المرّة ليس وفق السنن الربانية الثابتة والجارية في الخلق كما سبق وأسلفنا، لأن ذلك منوط بقيامة الأمة التي يبدو أنها لا تزال مغيبة عن الواقع كالمسحورة، بل قرب نهايتهم سببها أنهم أعلنوا الحرب على الله شخصيا حين تحالفوا مع الصهاينة لاجتثاث حزب الله واغتيال سماحة السيد كي يطفؤوا نور الله بتآمرهم، لكن الله متم لنوره ولو كره المجرمون.
بدليل، الحديث القدسي الذي قال فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب)، والذي ينسحب بحق على حرب ‘آل سعود’ ضد الله تعالى الذي نصر حزبه في أكثر من معركة وميدان، وأصبغ على عبده سماحة السيد الذي هو ولي من أولياء الله الصالحين، التأييد والمحبة والقبول، وحباه بالحكمة ونور العلم والمعرفة، وجعله نبراسا للقيم الإنسانية النبيلة، وقدوة في الأخلاق الإسلامية الحميدة على سنة جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهجومكم على جميع مسلمي العالم  : سوريا واليمن ولبنان وليبيا والشعب الصحراوي .
لذلك، أجزم من جهتي، لإيماني بربي وقناعتي بقرب تحقيق وعده ووعيده، أن نهاية ‘آل سعود’ باتت قريبة جدا، وأننا سنكون شهودا على معجزة من الخوارق التي لا يخص بها تعالى إلا رسله وأنبيائه وأوليائه المخلصين..
وهذا هو معنى قولنا لـ’آل سعود’: أتـى أمـر الله فـلا تستعجلـوه.

خاص: بانوراما الشرق الوسط
أحمد الشرقاوي